النظام العالمي الجديد احادي القطب وآثاره على العالم الإسلامي
النظام العالمي الجديد احادي القطب وآثاره على العالم الإسلامي
الدكتور سعيد عبدالله حارب المهيري
بسم الله الرحمن الرحيم
على الرغم من مرور سنوات على صيحة الرئيس الأمريكي السابق (جورج بوش) وهو يقف ليعلن بداية نظام دولي جديد يحل على العالم إلا أن مابين تلك الصيحة وهذا اليوم لم يشهد العالم تبلوراً واضحاً لحقيقة هذا النظام الدولي الجديد ومكوناته وخصائصه بصورة واضحة، وماتم حتى الآن لا يخرج عن تشخيصات السياسيين وتصورات الأكاديميين وهم يتلمسون البحث عن ملامح هذا النظام.
ومع أن الأمر كذلك فإنه لا يمنع من القول إن شيئاً - جنينياً - في العلاقات الدولية بدأ يتشكل خلال العقد الأخير من السنوات.
فما هو النظام الدولي الجديد؟
وما هي ملامحه؟
وهل حقاً هو نظام جديد؟ أم قديم في ثوب جديد؟
هل هو أحادي القطب أم متعدد الأقطاب؟
ماتأثير هذا النظام علينا نحن العرب والمسلمين؟
سنحاول الإجابة عن هذه التساؤلات من خلال استعراضنا لموضوع النظام الدولي الجديد وآثاره على العالم الإسلامي.
فمصطلح «النظام» يعتبر من أكثر المصطلحات استخداماً في شتى المعارف والعلوم وخاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية حيث نمت المناهج التنسيقية Systems analysis والرؤى النظمية Systemic في النظر إلى مختلف الظواهر الطبيعية والبشرية، وقد اجتهد علماء السياسة كغيرهم في مختلف التخصصات في سبيل التعريف بفكرة النظام على المستوى الدولي، فقد عرّفه (ولتز) مثلاً بأنه عبارة عن مجموعة من الوحدات التي تتفاعل فيما بينها، فمن ناحية يتكون النظام من هيكل أو بنيان ويتكون من ناحية أخرى من وحدات تتفاعل معها، ولعل «ستانلي هوفمان Stanley Hoffmann» أكثر تحديداً في رؤيته للنظام الدولي، فهو يرى أنه عبارة عن نمط للعلاقات بين الوحدات الأساسية الدولية ويتحدد هذا النمط بطريق بنيان أو هيكل العالم وقد يطرأ تغيرات على النظام مردها التطور التكنولوجي أو التغير في الأهداف الرئيسية لوحدات النظام أو نتيجة التغير في نمط وشكل الصراع بين مختلف الوحدات المشكّلة للنظام([1]).
أما «مارتن كابلن Marton Kaplan فقد عرّفه بأنه وجود مجموعة من القواعد والقيم والمعايير المترابطة التي تحكم عمل العلاقات بين الدول وتحدد مظاهر الانتظام والخلل فيها خلال فترة معينة من الزمن([2]).
وقريباً من هذا التعريف ماذهب إليه «كينث ولتز Kenneth waltz».
ويذهب موريس إيست وآخرون إلى أن النظام الدولي «يمثل أنماط التفاعلات والعلاقات بين العوامل السياسية ذات الطبيعة الأرضية - الدول - خلال وقت محدد»([3]).
ومن هنا يمكننا القول أن العناصر الأساسية التي يتكون منها النظام الدولي هي ثلاثة عناصر رئيسية:
1- وجود قواعد تنظم التفاعلات بين وحدات النظام الدولي وهذه القواعد هي مايعبر عنه بالقانون الدولي والمواثيق والمعاهدات والأعراف الدولية، كحق السيادة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى والأعراف الدبلوماسية وغيرها.
2- الوحدات التي يتم التفاعل فيما بينها وهي الدول والمنظمات الدولية والمؤسسات ذات الوجود المتعدد (الدولي) كمؤسسات الإعلام الدولية والشركات متعددة الجنسية، وكذا الأشخاص الذين يقومون بأدوار دولية.
3- التفاعلات التي تتم بين وحدات النظام سواء كانت في المجالات السياسية أم في غيرها من المجالات كالاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية والرياضية.. الخ.
وإذا كانت هذه هي فكرة النظام الدولي وعناصره فماذا عن نشأته؟
إن فكرة النظام الدولي ليست بالفكرة الحديثة أو المتأخرة بل هي فكرة قديمة تضرب في جذور التاريخ حاول خلالها الإنسان أن يمثل العالم النموذجي المثالي الذي يعيش فيه جميع البشر على مبدأ الوحدة الإنسانية القائمة على أسس قانونية - طبيعية أو دينية أو وضعية - دون التمييز بين أفراد هذا النظام بسبب اللون أو المعتقد الديني أو العرقي، ولعل أفكارها بدأت مع أفكار الفلسفة الرواقية "StoicPhilosophy" التي ظهرت في أثينا في القرن الثالث قبل الميلاد - تقريباً - حيث دعا زعيمها زينون "Zenon" إلى مدينة العالم" Cosppolis". وقد استلهمت الإمبراطورية الرومانية أفكار الرواقية حيث حاول قانون الشعب "Gentium"أن يكون قانوناً عالمياً، إلا أن تلك المحاولة كانت تخفي تحت ردائها إلى إعطاء المشروعية القانونية لسعي روما إلى احتلال الشعوب الأخرى، وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد حيث تلاشت شخصية الدول الموجودة وقتئذ في الإمبراطورية، وتعزز هذا الاتجاه بظهور المسيحية واعتمادها بعد ذلك في القرن الرابع الميلادي كديانة للإمبراطورية، فسعت إلى فرض هذه الفكرة بدعوى نشر المسيحية، إلا أن الفكرة اصطدمت بمعارضة الدول القائمة في ذلك حيث شهد العالم المسيحي حروباً ونزاعات جعلت فكرة خضوع الدول والشعوب لقانون واحد يعد ضرباً من الخيال، إلا أن فشل الفكرة في ميدان التطبيق لم يلغها من الذاكرة الإنسانية، إذ أن فكرة النظام الدولي كانت تبرز بين الحين والآخر، وقد بدأت الفكرة تتطور مع ظهور فكرة نظرية العقد الاجتماعي التي نادى بها فلاسفة أمثال (توماس هويز، وجون لوك، وجان جاك روسو) إذا أن فكرة العقد الاجتماعي القائمة على تنظيم العلاقة بين الحاكمين والمحكومين نقلت هذه العلاقة - في المجتمع الأوروبي - إلى نسق قانوني منظم دفعت بكثير من الباحثين والمفكرين إلى تطوير الفكرة بحيث تكون فكرة واعية تقوم على تنظيم العلاقة بين الدول بحيث تقوم هذه العلاقة على تنازل الدول عن جزء من حقوقها والتزاماتها مقابل الحصول على امتيازات من الآخرين، كالسلام والمصالح المتبادلة وغيرها، وهكذا نجد مفكرين مثل (ديفيد إيستون David Easton) يؤسس نظريته في النظم السياسية على أسس «أن الحياة السياسية هي جسد من التفاعلات ذات الحدود الخاصة والتي تحيط بها نظم اجتماعية تؤثر فيها بشكل مستمر، أما (غابريل ألموند Gabroe'A .Almond) فقد كان أكثر تحديد ووضوحاً حين وصف النظام السياسي بأنه «نظام من التفاعلات التي توجد في كل المجتمعات المستقلة التي تؤدي وظائف التكامل والتكيف داخل هذه النظم وفي اتجاه المجتمعات الأخرى - بوسائل توظيف أو التهديد بتوظيف وسائل القهر الشرعي بصورة كبيرة أو صغيرة. وإذا كان المفكرون والفلاسفة قد طوروا الفكرة، فإن الساسة والمنفذين وبعض المفكرين حاولوا طرح الفكرة إلى عالم التطبيق وكان من أبرز هذه المحاولات مشروع الوزير الفرنسي (ساي) عام 1603م الذي طرحه على الملك هنري الرابع حيث اقترح إنشاء جمهورية مسيحية تضم كافة شعوب العالم، وكانت الفكرة تقوم على إنشاء اتحاد أوروبي بـإشراف الإمبراطور.
ثم تلت ذلك فكرة الأب (برنارد سان بيير) عام 1713م التي تقدم بها إلى مؤتمر (يوترخت) في المشروع الذي سماه مشروع السلم الدائم والذي يدعو فيه لإنشاء عصبة أمم أوروبية كاتحاد دولي للفصل في المنازعات.
ثم كانت دعوة الفيلسوف (كانت) عام 1875م لإنشاء مشروع دائم للسلم يقوم على قوانين عامة تطبق على جميع الدول، كما دعا إلى ذلك (بنتام) صاحب مبدأ المنفعة، حين عرض ما سماه بفكرة «العالمية» وكذلك ما دعا إليه (اسكندر) القيصر الروسي عام 1815م، إذ دعا إلى حلف مقدس، وكذلك (مترنيج) الذي كان يدعو إلى مشروع للتضامن الأوروبي، ولعل فكرة الأممية التي نادى بها (كارل ماركس) لا تبعد كثيراً عن فكرة النظام العالمي، وإن اختلفت في الوسائل والأدوات.
إلا أننا ونحن نبحث في تطور فكرة النظام الدولي لايمكن أن نغفل معاهدة (وستفاليا) التي وقعتها مجموعة من الدول الأوروبية عام 1648م إثر الحروب والمنازعات التي شهدتها هذه الدول فترة طويلة من الزمن وتأتي أهمية هذه المعاهدة باعتبارها أول سعي جاد ومنظم لإقامة نظام دولي على أسس قانوية وتعاون مشترك بين أعضاء بدلاً من الحروب والصراعات. كما نظمت هذه المعاهدة العلاقات بين هذه الدول وفق قانون مشترك وحددت آلية لتنفيذها من خلال التشاور بين أعضائها في حل مشاكلهم على أساس المساواة في الحقوق والواجبات بين الأعضاء، كما أخذت المعاهدة بفكرة التوازن الدولي، ولذلك أعطت الحق للدول بالتدخل ضد أي دولة تحاول أن تخل بالوضع القائم حتى يمكن المحافظة على السلم والتوازن القائم بين الدول، كما وضعت المعاهدة قاعدة تدوين القواعد القانونية الملزمة للدولة المعنية.
إلا أنه على الرغم من ذلك فإن معاهدة (وستفاليا) لا تشبع مفهوم النظام الدولي، بهذه الصفة - أي دوليته - بل اقتصر مفهوم الدولية أو العالم فيها على العالم الأوروبي وبالتحديد الدول الموقعة على الاتفاقية.
مراحل النظام الدولي
المرحلة الأولى
ويمكننا تحديد فترات زمنية برز فيها مفهوم النظام الدولي بصورة واضحة إلى حيز التطبيق، ولعل أهم هذه المراحل تلك الفترة التي امتدت منذ مؤتمر (فيينا) عام 1810م وحتى عام 1914م، هذا المؤتمر الذي عمل على إعادة التوازن الدولي للمجموعة الأوربية وخاصة العمل على عودة الأنظمة السياسية الحاكمة في تلك الدول إلى سيادتها، وإعادة تقسيم الأراضي الأوربية بعد هزيمة نابليون، ولذلك سعت الدول إلى إبرام العديد من الاتفاقيات والتحالفات التي أخذت طابع الدولية لتضمن إقرار السلام وعدم العودة إلى حالة الحرب.
ولعل وجه الشبه بين النظام الدولي في تلك المرحلة والنظام الدولي الحالي الجديد هو أن كلاهما قام على أنقاض قوة عسكرية وسياسية دولية، فالأولى - قوة نابليون - انهارت بالقوة العسكرية، بينما انهارت القوة الثانية - الاتحاد السوفيتي - بأسباب سياسية وداخلية، والملاحظة الأخرى أن كلا النظامين أعاد تشكيل القارة الأوربية حيث أعيد تنظيم الدول الأوربية كالسويد وسويسرا وبولندا وروسيا والنمسا وبروسيا.. وغيرها من الدول، بينما أدى إنهيار الاتحاد السوفيتي ومنظومته الاشتراكية إلى إعادة تشكيل القارة الأوربية، فأعيد توحيد ألمانيا، وانقسمت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين (جمهورية التشيك، وجمهورية السولفاك) كما أعيد تنظيم دول البلطيق (لتوانيا، واستونيا ولاتفيا) وأخذت أوكرانيا وروسيا البيضاء وجورجيا وصفاً جديداً باستقلالها، كما تفتت يوغسلافيا إلى عدة دول وهي سلوفينيا وكرواتيا والبوسنة والهرسك ومقدونيا وصربيا والجبل الأسود وهما الدولتان اللتان بقيتا ضمن الاتحاد اليوغسلافي، إلا أن إعادة الترتيب هذه المرة طالت دولاً بعيدة عن القارة الأوربية وهي كازخستان وتركمانستان وقرغيزيا وطاجاكستان وأذربيجان وأوزبكستان وأرمينيا وهي من الدول التي ينتمي سكانها إلى المجموعة الإسلامية، ومن المفارقات العجيبة أن كلا النظامين تأثرا بالأحداث التي تجري في المنطقة الإسلامية، فقد تدخلت دول معاهدة (فيينا) في مصر عام 1840م عندما أرسل محمد علي والي مصر ابنه ابراهيم باشا في حملة على بلاد الشام، فتدخلت هذه الدول حتى لا تصبح مصر دولة قوية وتخل بالتوازن في المنطقة، وقد تكرر المشهد مرة أخرى عام 1990 عندما تدخلت دول التحالف وفي مقدمتها دول النظام الدولي الجديد لإخراج العراق من الكويت، وإنهاء احتلاله له، بل أن مصطلح النظام الدولي الجديد لم يأخذ مكانه من التداول إلا مع أزمة الخليج الثانية!
ولعل أبرز ملامح هذه المرحلة (معاهدة فيينا):
1- بداية تكوين الدولة الرأسمالية وخاصة في القرن التاسع عشر حيث بدت الدول الأوربية، تأخذ صفة الرأسمالية الصناعية، وامتدت تلك الصفة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لتصبح بعد ذلك إحدى الوحدات الأساسية الفاعلة في النظام الدولي وقد عبرت الدول في سياستها الخارجية وعلاقتها بالدول الأخرى بهذا التصور فانطلقت هذه العلاقات من حرية التجارة والسوق ولو على حساب الدول الأخرى مستخدمة في ذلك القوة العسكرية التي مكنتها من فرض سيطرتها على أجزاء واسعة من العالم، وانعكس ذلك على الأوضاع الداخلية لهذه الدول فسادت الليبرالية السياسية والاقتصادية وحرية الاعتقاد والحرية الفردية وغيرها من المبادئ.
وقد تأثرت البلاد الإسلامية بذلك إذ خضعت أجزاء كبيرة منها للاستعمار الذي حاول نقل تصوراته ومفاهيمه السياسية والاقتصادية لتلك البلدان مع الاختلاف الكبير في الظروف والبيئات.
2- لقد أدت الثورة الصناعية وقيام الدولة الرأسمالية والتنافس بين وحدات النظام الدولي في تلك المرحلة إلى قيام التحالفات بين وحدات النظام وانتقال الصراع من التنافس العسكري إلى التنافس السياسي والصناعي وإبراز سياسة توازن القوى بصورة واضحة في النظام الدولي، مما حقق سلاماً نسبياً بين الدول الأوربية وحال دون نشوب حروب شاملة كتلك التي حدثت في القرن الثامن عشر، كما أن أنشغال هذه الدول بمشكلاتها الداخلية كقمع الحركات السياسية ومواجهة الدعوات القومية شغلها عن الحروب الخارجية فلم تبرز قوى متميزة على الرغم من المحاولات التي بذلتها بعض الدول من خلال التحالفات، إلا أن هذا التوازن اختل مع بداية الربع الأخير من القرن التاسع عشر نتيجة توحيد ألمانيا وظهورها كقوة كبرى في القارة الأوربية مما أدى إلــى تصادمها مـــع مصالح الدول الاستعمارية الكبرى في ذلك الوقت كبريطانيا وفرنسا.
3- كان من مظاهر تلك المرحلة أن انتقلت فكرة حرية السوق إلى المستوى الدولي فاتجهت الدول إلى فرض حرية التجارة بين دول العالم بحيث تجد هذه الدول أسواقاً استهلاكية واسعة ومنخفضة الرسوم الجمركية وأدى ذلك إلى إرتفاع معــدلات النمــو الاقتصادى وانتعاش اقتصاد تلك الدول على حساب المستعمرات والدول الأخرى خارج المجموعة الأوربية وكانت بريطانيا أكثر الدول استفادة من هذه الخطوة إذ أنها كانت أكثر الدول الأوربية تقدماً في مجال الصناعة. وقد دخلت بعد ذلك دولا أخرى كألمانيا والولايات المتحدة كمنافس قوي لبريطانيا، إلا أنه في أواخر القرن الماضي - أي ما بين 1873 - 1896م شهد كساداً اقتصادياً ساد العالم الرأسمالي وقد مهدت كل هذه الإجراءات الطريق نحو الحرب العالمية الأولى.
4- اتسمت علاقة هذه المجموعة بدول العالم الثالث - والبلاد الإسلامية من بينها - بالهيمنة والسيطرة الاستعمارية، فلقد كان التوسع الاستعماري وسيلة للبحث على أسواق جديدة والحصول على مصادر الطاقة والمواد الأولية بأسعار زهيدة، كما كان التنافس العسكري والاستراتيجي للسيطرة على طرق التجارة سبباً آخر لهذا الاستعمار الذي انعكس على دول العالم بتأثيرات سلبية من أبرزها القضاء على محاولات التنمية الصناعية الناشئة في بلدان العالم الثالث كالصين والهند ومصر وغيرها، كما امتد التأثير إلى الجوانب الفكرية والثقافية، إذ حاولت الدول الاستعمارية فرض الاتجاهات الفكرية الغربية من قيم وثقافة ولغة وعادات على الشعوب المستعمرة، ونمّت لديها الشعور بالتبعية والدونية والحاجة الدائمة لها، كما استولت على القطاع الأكبر والأهم من تجارتها الخارجية، كما سعت إلى إيجاد طبقة وطنية موالية لها تحافظ على مصالحها وتعمل على استمرارها في حال انتهاء وجودها، كل ذلك فرض نظاماً دولياً غير متكافئ الوحدات بل انقسم إلى فئتين، فئة متحكمة في هذا النظام وفئة تابعة ومستهلكة ومحققة لأغراضه.
المرحلة الثانية:
أما المرحلة الثانية من مراحل النظام الدولي فهي تلك المرحلة التي امتدت من عام 1919 - 1945م، وهي الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، وقد تميزت هذه المرحلة بعدم الاستقرار على الرغم من أنه نظام نشأ في ظل مؤتمر الصلح في (فرساي) عام 1911م الذي عملت ألمانيا على تغييره نظراً لما كانت تشعر به من إذلال وتقليل من دورها، كما برزت قوة أخرى تبعد كثيراً عن المجموعة الأوربية وهي اليابان التي حاولت أن تجد لها مكاناً مناسباً في النظام الدولي السائد آنذاك، ولم تكن راضية عن التطورات السياسية التي كانت تجري في تلك الفترة فعملت - هي الأخرى - على تغيير النظام الذي نشأ بعد مؤتمر فرساي.
ولعل أبرز ملامح النظام في هذه المرحلة:
1- برزت القوة كإحدى الركائز التي قام عليها هذا النظام إذ فرضت على ألمانيا معاهدة الصلح بعد تدمير قوتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ولذا كان الألمان يطلقون على هذه المعاهدة (معاهدة العبودية) أما على الطرف الآخر فخرجت قوى النظام الجديد وهي فرنسا وبريطانيا وأمريكا منتصرة ظافرة، بينما اتجه الاتحاد السوفيتي لبناء كيانه الاشتراكي والانطواء على نفسه وتعزيز وجوده الداخلي وقدراته العسكرية، أما الولايات المتحدة الأمريكية، فعلى الرغم من انتصارها، إلا أنها فضلت العزوف عن التدخل في شؤون القارة الأوربية وتركت ذلك لأبناء القارة نفسها فانفردت فرنسا وبريطانيا بفرض هيمنتها على الدول الأوربية، أما ألمانيا فقد ساءها ما حدث وحولت هذه الإساءة إلى بناء كيان جديد يستطيع أن ينخلع من ربقة الهيمنة. وهذا ما حدث بعد وصول (هتلر) إلى مقعد القيادة في العربة الألمانية، فعمل تدريجياً على استعادة ألمانيا لمكانتها.
أما في الشرق فقد انطلقت اليابان تتحدى النظام الجديد خاصة في منافسته على أسواقه التقليدية في الشرق وبدأت تجربة هذا التحدي باحتلال (منشوريا) عام 1931م، وغزو شمال الصين عام 1937م. ويمكننا القول أن الهدوء النسبي الذي شهده العالم خلال بعض فترات هذه المرحلة كان أشبه بسن السكاكين أو الهدوء الذي يسبق العاصفة!!
2- اتصفت هذه المرحلة بصعود المد الأيدلوجي في بعض وحدات هذا النظام واشتداد الصراع بين هذه (الأيديولوجيات) إذ انتعشت الشيوعية من جهة وقابلتها كل من النازية والفاشية من جانب آخر، بينما تنامى المد القومي في أرجاء واسعة من العالم الإسلامي كتركيا وأجزاء من الهند وأندونيسيا والبلاد العربية.
3- أما على المستوى الاقتصادي فتميزت هذه المرحلة بفترات كساد اقتصادي ساد أغلب مناطق العالم وكان أبرز تلك المراحل الأزمة المالية الدولية التي بدأت في النمسا صيف 1931م وامتدت إلى ألمانيا ثم انتشرت في بقية الدول الأوربية، وكان من نتيجة ذلك أن الوحدات المؤثرة في هذا النظام اتجهت إلى مستعمراتها ومناطق نفوذها في مزيد من الاستغلال لتعويض خسارتها من الكساد.
4- الملاحظ أن بعض ملامح هذا النظام الدولي في هذه المرحلة تكاد تتكرر مع النظام الدولي الجديد. فنهوض الفكر القومي وانتعاشه بات أحد الأسباب التي تقلق ساسة النظام الجديد وخاصة بعد تفتت الاتحاد السوفيتي وإعادة تكون الدول على أسس قومية، وما أدى إليه ذلك من صراع دموي بات يغطي بعض مساحات الدول مثلما نشهد ذلك في البوسنة والهرسك وكرواتيا، وسلوفينيا قبلهما، وإبخازيا و(ناجورنوقرباغ) وناختشفييان وأرمينيا وأذريبجان، والقضية الكردية. ولم يسلم الاتحاد الروسي الذي ورث بقايا روسيا القيصرية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي حيث تشهد بعض أرجاءه تململاً واضحاً للقوميات الواقعة تحت حكمه، وصل بعضها إلى الحرب الشنيعة، كما حدث في الشيشان وما يتوقع أن يحدث في أرجاء أخرى كأنغوشيا، وداغستان، وتتارستان، إذا لم تتم الاستفادة من دروس الشيشان، والملاحظ أن معظم هذه الصراعات تمس البلاد الإسلامية أو الدول التي تحتوي على تجمعات إسلامية.
5- إلا أن أهم معالم هذا النظام الدولي في هذه المرحلة هو إيجاد منظومة دولية تضفي مشروعية قانونية دولية على الوضع القائم بعد الحرب الصفة الشرعية وذلك من خلال إنشاء عصبة الأمم التي أسند إليها الإشراف على هذا النظام، إلا أن هذه (المنظومة) لم يكتب لها النجاح بسبب إصرار المجموعة الأوربية على إضفاء التصورات القديمة للنظام العالمي القائم على تميز أوروبا عن غيرها، لذلك بقيت هذه المنظمة منظمة على مستوى أوروبا والعالم المسيحي، إذ لم تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في هذه المنظمة بعد رفض مجلس الشيوخ الأمريكي المصادقة على معاهدة فرساي، كما انسحبت منها ألمانيا بعد فترة من انضمامها لها، هذا إلى جانب أسباب أخرى حدث من تأثير عصبة الأمم وفاعليتها، إلا أن هذه التجربة كانت دافعاً لكثير من الدول للتفكير بمنظمة جديدة يكون لها دور وتأثير أكبر، وهذا ما تحقق في المرحلة التالية.
6- يبدو واضحاً أن هذه المرحلة تميزت بتعدد القطبية فيها، إذ لم تنفرد دولة واحدة بذلك، كما لم يقم النظام على قطبين متقابلين - كما حدث ذلك في المرحلة اللاحقة - وإنما توزعت القطبية على دول كفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا والولايات المتحدة وحتى اليابان، مما جعل من الصعب التحكم في هذا النظام بصورة مباشرة، وأثر ذلك على حالة توازن القوى فكان من نتائجه اختلال هذا التوازن بين فترة وأخرى لصالح إحدى مكوناته، ودفعت هذه الحالة العالم إلى خوض حرب عالمية ثانية خلطت جميع الأوراق وأعادت فرزها لتبرز مرحلة جديدة كان لها خصائصها ومميزاتها.
المرحلة الثالثة:
أما المرحلة الثالثة من النظام الدولي هي تلك التي يمكن تحديدها بالمرحلة التي نشأت مع الحرب العالمية الثانية (عام 1945م) وامتدت حتى عام 1990م والتي وصفت بأنها مرحلة (الحرب الباردة) وحددت بالثنائية القطبية إذ أدت الحرب العالمية الثانية إلى خروج معظم أطرافها منهوكة القوى في مختلف جوانب التأثير العسكري والسياسي والاقتصادي، على الرغم مما حققه الحلفاء من انتصارات عسكرية، إلا أن آثار الحرب قد القت (بكلكلها) على هذه الدول - وخاصة الأوربية الغربية - بينما شهدت هذه المرحلة صعوداً سريعاً لقوتين كبيرتين متنافستين هما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الرغم من توزيع الأدوار خلال الحرب إلا أن الاتحاد السوفيتي - لأسباب جغرافية - خرج وتحت إبطه مجموعة من الدول الأوربية الشرقية الدائرة في فلكه، مما عزز موقفه في المواجهة، بينما خرجت الولايات المتحدة وهي تملك بقية الأوراق في يدها. إذ ولأول مرة في تاريخها يتحقق لها نفوذ كبير بهذه السعة وكانت القنبلتين النوويتين اللتين ألقتهما الولايات المتحدة الأمريكية على (هيروشيما ونجازاكي) في شهر أغسطس عام 1945م إيذاناً ببدء عصر تكون لأمريكا فيه اليد الطولى سواء كان ذلك على الصعيد العسكري أم السياسي أم اقتصاديا، إذ تم تدعيم الموقف العسكري بموقف سياسي من خلال مبدأ ترومان المعلن في مارس 1947م، واقتصادياً ببرنامج (مارشال) للمساعدات المعلن في يونيو 1947م والذي ساعد على إعادة إعمار أوروبا الغربية واليابان، كما ساعد في تدعيم الاقتصاد الأمريكي.
ولعل أبرز خصائص هذه المرحلة:
1- ثنائية القطبية إذ أن وجود مركزين للنظام أدى إلى استقطاب مجموعة من الدول دائرة في فلكه وأصبحت المنظومة الاشتراكية تشكل وحدة متجانسة من حيث اتجاهاتها السياسية وتصوراتها وكانت المجموعة الغربية تشكل وحدة متجانسة كذلك. من هنا برزت (الأيديولوجيا) مرة أخرى، وهي هنا ليست معتقداً فكرياً وسياسياً وإنما تصوراً شاملاً لصياغة الحياة. فقام المعسكر الشرقي على الفكر الشيوعي، بينما قام المعسكر الغربي على الفكر الرأسمالي وحاول كل معسكر كسب عدد من الدول والقوى السياسية المؤيدة له فخرج مفهوم المعسكر عن إطار (الجغرافيا) شرق وغرب، إلى أن أصبح مفهوماً يرمز إلى أحد المعسكرين اللذين حاولا الوصول إلى مناطق نفوذ الآخر، وهكذا وجدنا الاتحاد السوفيتي يمد أطرافه إلى كوبا غرباً وفيتنام وكوريا الشمالية شرقاً وبينهما دول تخضع لهذا النفوذ أو ذاك سواء كانت في آسيا أو أفريقيا أو أمريكا اللاتينية، وعلى الجانب الآخر فقد كانت رؤية القطب الآخر للنظام (الرأسمالي)ترى أنه لا يمكن التعايش مع النظام الاشتراكي وأن أفضل وسيلة للقضاء على هذا النظام هو مواجهة في مختلف المواقع، وأن النظام الرأسمالي لا يمكن حصره في أمريكا أو أوربا الغربية، وأن المواجهة تتطلب الانتقال إلى مواقع الصراع مباشرة، وكان أوضح نموذج لذلك نقل الاتحاد السوفيتي المواجهة مع أمريكا إلى أقرب شواطئها عندما نصب صواريخه في كوبا للمواجهة مع أمريكا، بينما نقلت أمريكا صراعها إلى فيتنام وكوريا وإلى كل مكان تضع الشيوعية فيه قدم لها، وكان آخرها أفغانستان.
2- تميزت هذه المرحلة بتكوين قوى (ظل) مساندة إلى سعي كلا الطرفين لتطوير قدراته في المواجهة من خلال إيجاد تكتلات سياسية أو عسكرية كبرى يسند بها موقفه من المواجهة، وهكذا وجدنا أوربا الغربية (المورث للنظام الدولي السابق) تضع كل ثُقلها إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية متحالفة معها في حلف شمال الأطلسي بينما تكتلت أوروبا الشرقية خلف الاتحاد السوفيتي في حلف وارسو، وفي الشرق نما سندين كبيرين لكلا الطرفين، إذ استطاعت اليابان بناء قوة اقتصادية كبرى وضعتها في ميزان النظام الرأسمالي من خلال مجموعة الدول الصناعية الكبرى السبع، مما رجح كفته الاقتصادية، بينما تبنت الصين وهي قوة بشرية وصناعية وعسكرية هائلة النظام الشيوعي، إلا أنها حاولت أن تصنع لنفسها محوراً خاصاً يستقطب أطرافاً من المنتمين للمعسكر الشيوعي.
3- دفعت (الحمى الباردة) التي سرت في جسد النظام الدولي خلال هذه الفترة إلى السباق في شتى الميادين وكان الميدان العسكري والتقني أبرزهما، فقد كان انطلاق رائد الفضاء السوفيتي (جاجارين) إلى الفضاء رعشة سرت في الجسد الأمريكي كله فدعته إلى تطوير قدراته الفضائية التي لم يهنأ لها بال إلا وهي ترى رائدها (نيل آرمسترنج) وهو يضع قدمه على سطح القمر. وقد تجلى السباق في الميدان العسكري من خلال الأسلحة النووية والصواريخ العابرة للقارات وملايين الأطنان من الانتاج العسكري وتطوير البرامج الحربية وكان آخرها برنامج حرب النجوم في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق (ريجان) وقد حملت الكرة الأرضية من وسائل التدمير خلال هذه المرحلة مايكفي لتدميرها ست مرات كما يقول الخبراء العسكريون.
4- لم يكن احتواء الشيوعية أو مواجهتها هدفاً (أيديولوجيا) سياسياً فقط، بل كان هدفاً اقتصادياً كذلك، لقد كانت مصادر الطاقة تشكل هاجساً للولايات المتحدة تخشى عليه من أن تلعب به أصابع الدب الروسي!! ولذلك فقد سعت إلى سد كل المنافذ التي يمكن أن يصل منها ولو أدى ذلك إلى الرد العسكري كما عبر عنه الجنرال أ.م. غراي، أحد قادة القوات البحرية الأمريكية في تصريح له في أول مايو من عام 1990م عندما قال: «إذا أرادت الولايات المتحدة أن تحافظ على إمكانية الوصول بحرياً إلى الأسواق الخارجية والمصادر الرئيسية وكل ما تحتاجه صناعتنا.. فعلينا أن نحافظ داخل هياكلنا الدفاعية على طاقة حقيقية من أجل الرد العسكري على أنماط الصراعات وفي كل مكان من العالم»([4]).
ولذلك عملت الدول الرأسمالية خلال هذه الفترة على فتح أسواق جديدة لها خاصة في منطقة الشرق الأوسط وشرق آسيا، كما سعت للحفاظ على مصادر الطاقة وخاصة النفط وبأسعار مخفضة حتى لا تتأثر صناعتها بأي خلل يقع في هذا المصدر. كما حدث ذلك أثناء حرب أكتوبر عام 1973م. كما سعت ومنذ بداية السبعينيات إلى فتح أسواق جديدة لها في بعض المناطق التي كانت مغلقة أمامها كالصين التي نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في اختراق سورها العظيم من خلال سياسة (البنج بونج) بحيث أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية، من أكثر المستفيدين من فتح هذه السوق التي كوفئت بعدها الصين بـإعطائها الدولة الأفضل في الرعاية.
5- برزت خلال هذه المرحلة آلية جديدة لحفظ النظام الدولي وهي منظمة الأمم المتحدة التي أنشأت عام 1945م وقد تأثرت في رسم سياستها بما خلفته الحرب العالمية الثانية من دمار ومآسي، ولذلك اهتمت المنظمة في مواثيقها بالسلام العالمي وحقوق الإنسان والمساواة وإقامة العلاقات الدولية على أسس من الاحترام المتبادل، وأخذت الأمم المتحدة صلاحيات واسعة خولتها التدخل - أكثر مما كانت عليه عصبة الأمم - في التدخل لحل المنازعات وإقرار السلم. إلا أن هذ الصلاحيات كانت أسيرة القوى العظمى التي تحكمت في مصير العالم من خلال نظام التصويت في مجلس الأمن. إلا أن الأمم المتحدة استطاعت - إلى حد ما - أن تقوم بأدوار متعددة خاصة في مجالات إقرار السلم في بعض المواقع المضطربة من العالم، كما أسهمت في مجالات التنمية والتطور في بعض دول العالم الثالثة، كما كان للمنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة أدواراً أخرى كذلك، إضافة إلى المواثيق الدولية التي صدرت خلال هذه الفترة وأبرزها اتفاقية جنيف لحقوق الإنسان. ويمكننا القول أن خلال هذه الفترة بدأت تتكون ملامح المشروعية الدولية التي ستصبح بعد ذلك إحدى ركائز النظام الدولي الجديد.
6- أما عن العالم الإسلامي فقد كان خلال هذه الفترة ومحط جذب من كلا القطبين إذ حرص كليهما على إقامة علاقة وطيدة مع بعض الدول الإسلامية خاصة بعد مرحلة التحرر والحصول على الاستقلال الوطني، إذ اتجهت بعض الأنظمة التي نشأت في هذه المرحلة إلى تبني بعض الأطروحات الاشتراكية وإن حاولت أن تكسبها الرؤى القومية أو الوطنية، إلا أن النصف الثاني من هذه المرحلة شهد تحولاً لدى بعض الدول الإسلامية عن التوجه الإشتراكي إلى الأخذ بالنظام الليبرالي كما حدث في أندونيسيا وبعض الدول العربية، أما الولايات المتحدة وحلفائها فقد حرصوا على توطيد علاقاتهم مع الدول تمتلك مصادر الطاقة كدول الخليج العربي، كما برزت اسرائيل خلال هذه المرحلة كموطئ قدم للنظام الدولي بشقه الغربي في البلاد العربية مما أثر بشكل مباشر على اتجاه بعض الدول العربية إلى المجموعة الاشتراكية التي كانت بمثابة الحليف والمساند للعرب في قضيتهم الفلسطينية.
7- إلا أن هذه المرحلة - خلافاً للمرحلتين السابقتين - شهدت تحولاً في النصف الثاني منها، فبعد أن «انعكس التوتر على سباق التسلح النووي وبروز الأحلاف العسكرية وعلى تبني سياسة الاحتواء والتطويق وسياسة الاستقطاب والتنافس على مناطق النفوذ في العالم - إلا أن هناك حالات - الانفراج في لقاء القمم والتوصل إلى العديد من الاتفاقيات الثنائية أو المتعددة الأطراف للحد من انتشار الأسلحة التدميرية أو التخلص من البعض منها، وفي التعاون العلمي والتقني والاقتصادي والسياسي بين القوتين، وعليه فإن المرحلة الثالثة شهدت الانتقال من مرحلة الجمود التي استمرت حتى منتصف الخمسينيات إلى الثنائية المرنة بعد قبول الأطراف الرئيسية في النظام الدولي بمبدأ التعايش السلمي والسماح للأطراف الأخرى مثل أوروبا الغربية وجمهورية الصين الشعبية وكتلة عدم الانحياز، بأن تؤدي دوراً فاعلاً في النظام الدولي. وقد شهدت هذه المرحلة العديد من التطورات، أهمها تزايد عدد دول العالم الثالث وبروز فاعلين من غير الدول واتساع دور الأيديولوجيا وضعف التمييز بين الحروب الدولية والحروب الأهلية وتزايد دور الرأي العام والثورة في وسائل الاتصال والثورة العلمية والاهتمام بقضايا البيئة والدراسات الاستشرافية»([5]).
مرحلة النظام الدولي الجديد:
لاشك أن منتصف الثمانينيات من هذا القرن شهد تحولاً كبيراً في مسيرة النظام الدولي، وذلك بعد وصول الرئيس السوفيتي آنذاك (ميخائيل غورباتشوف) إلى سدة الحكم، إذ أن التغيرات السريعة والمتلاحقة جعلت كثيراً من المراقبين والمحليين يصاب بحالة من الانبهار وعدم القدرة على المتابعة والتدقيق أو التفاؤل والتبشير بعصر جديد. تلك الحالة التي دفعت بكاتب مرموق كالكاتب الأمريكي، الياباني الأصل، (فرنسيس فاكوياما) أن يصف ما حدث بأنه «نهاية التاريخ» حين أصدر كتابه المعنون بذات العنوان وتحدث فيه عن تصوره حول هزيمة النظام الشيوعي الحاسمة، وغلبة النظام الرأسمالي وسيادته على العالم. وبذلك فإن العالم - برؤيته - قد وصل إلى نهاية التاريخ، إذ ليس بـإمكان العقل البشري أن يأتي بنظام أفضل من النظام الرأسمالي لأن البديل - الشيوعي - الذي كان يؤمل منه تحقيق السعادة البشرية قد فشل بعد تطبيق دام اثنين وسبعين عاماً، وبذلك فإن النظام الرأسمالي الذي يحقق للبشرية ما تريد من الرفاه والحرية والنمو السريع والمضطرد في مستوى المعيشة قد أصبح قدر الإنسانية!! الذي لا مفر منه.. والذي ستعيش في ظله إلى الأبد!!
فهل نحن على أعتاب نظام دولي أبدي؟!!
1- لقد كانت الفترة الزمنية التي مرت بين عام 1985م وحتى 1989 تمثل مرحلة التحول في النظام الدولي الجديد والتي ختمت بقمة (مالطا) التي عقدت في ديسمبر من عام 1989م وجمعت بين قطبي النظام الدولي في ذلك الوقت - الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي - كانت هذه القمة بمثابة قمة التسليم للتحولات السياسية ووضع مفاتيحها بيد لاعب واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا مادعى (بريجنسكي) للقول «إن غياب الاتحاد السوفيتي من الساحة يعني أن الولايات المتحدة ستكون القوة العظمى الوحيدة ذات المسؤولية الدولية»([6]).
لقد جاءت هذه التحولات لتحقق حلماً طالما راود الأمريكيين وهم يطالعون كل يوم تطور الصراع بين بلادهم والعدو - اللدود - الاتحاد السوفيتي، ولذا فإن الخطوات التي اتخذها (غورباتشوف) وأدت إلى تفتت الاتحاد السوفيتي واضمحلال خطره، كانت مصدر فرح وسرور لدى المواطن الأمريكي، أكثر ماهي عليه لدى المواطن الروسي، ولذلك ردد بعضهم ساخراً «إن غورباتشوف لو رشح نفسه لرئاسة الولايات المتحدة لفاز بلا منازع!!».
ولقد عبر (وليام هايلاند) محرر مجلة الشؤون الخارجية عن هذه الحلة في افتتاحية لعدد الربيع عام 1990م حيث كتب «كانت السياسة الخارجية الأمريكية في الخمسين سنة الماضية قد تكونت استجابة للتهديد الذي يطرحه خصوم هذه البلاد وأعدائها. ففي كل عام منذ بيرل هاربر كانت الولايات المتحدة مشتبكة إما في حرب أو في مواجهة. والآن ولأول مرة منذ نصف قرن، تحظى الولايات المتحدة بالفرصة لإعادة تركيب سياستها الخارجية متحررة من قيود الحرب الباردة وضغوطها.. كانت الولايات المتحدة منذ 1941م في حالة تورط دائم، والآن ونحن على أعتاب عصر جديد ثمة توق إلى العودة إلى حالة (اللاتورط) بمختلف الأشكال.. فهل تستيطع أمريكا أن تؤوي أخيراً إلى موطنها؟.. إن الولايات المتحدة تتمتع في واقع الأمر ببعض الخيارات الحقيقية لأول مرة منذ 1945م. إن الولايات المتحدة وحلفاءها قد كسبوا الحرب»([7]).
إن هذا الحماس لم يخف قلق بعض الساسة والمفكرين الذين أبدوا تخوفاً من الاستعجال بوصف ماحدث على أنه نظام عالمي جديد فهذا (بريجنسكي Zbignelew Brzezinski) مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق (كارتر) للأمن القومي يقول «إن أفول نجم الاتحاد السوفيتي معناه تفرد الولايات المتحدة بمركز الدولة العظمى ذات المسؤولية العالمية. إن أوروبا ستكون في أحسن الأحوال قوة اقتصادية ولو أن توسعها نحو الشرق يؤخر اندماجها وتوحيدها بعض الشيء. ولن تتحول اليابان إلى قوة عسكرية - سياسية إلا بعد مضي بعض الوقت. وهكذا تبقى الولايات المتحدة الأمريكية القوة العالمية الوحيدة»([8]). إلا أن حديثه هذا لا يعبر عن أن الدور الذي يمكن أن تلعبه الولايات المتحدة يعتبر نظاماً دولياً جديداً، إذ يصرح (بريجنسكي) في موقع آخر بقوله «لقد صاغت إدارة بوش عبارة النظام الدولي الجديد، فإذا كانت تعني أن النظام العالمي الجديد قد تغير بشدة فهي سليمة تماماً، أما إذا كانت تعني أن نظاماً عالمياً جديداً سيحل ويتسم بالاستقرار فهي (طوباوية) في غير محلها، فالنظام العالمي في المستقبل سيرجع مرة أخرى إلى النظام العالمي الذي كان قائماً قبل عام 1939م، وسوف يتسم بسياسة القوة والمناقشات القومية والتوترات العرقية»([9]).
وفي مقابلة معه، قدمها التلفزيون الألماني في برنامجه الأول المعروف بـ ( ARDبتاريخ 2/8/1991 م صرح قائلاً بأنه «ليس هناك نظام عالمي جديد، وإنما الموجود هو النظام القديم الذي تستخدم فيه القوة وتكون الغلبة للأقوى».
أما الأستاذ الفرنسي «دوفيك شوفالييه» الأستاذ بجامعة السوربون فيصرح قائلاً «لايوجد حتى اليوم ما يسمى بالنظام العالمي الجديد، فكل ما حدث هو تدمير نظام وتوازنات أقيمت إثر الحرب العالمية الثانية،.. وأنه من الصعوبة بمكان القول بانفراد الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم، لأنها أكبر دولة مدينة في العالم، كما أن الدولة التي تسيطر على العالم لابد وأن تبدأ بالسيطرة على نفسها أولاً، فهي تعاني من مشكلات اجتماعية وعرقية خطيرة تهدد كيانها، والعالم اليوم لا يجنح إلى العالمية، كما يتصور البعض، فهناك تأجج القوميات، كما أن هناك صحوة للروحانيات الدينية»([10]).
وإذا كان هذا موقف الرافضين لفكرة قيام نظام دولي جديد، فإن البعض الآخر يرى أن ماحدث هو انحلال لنظام دولي قائم دون أن يتبلور نظام دولي جديد، وأن وجود قطبين للنظام السابق كان مدعاة تحدي لكليهما لتطوير قدراتهما، لا العسكرية والسياسية فقط، بل كافة جوانب الحياة المادية. وهذا ما عبر عنه الكاتب الأمريكي (Robert Littel) روبرت ليتل في مقال نشره في صحيفة (Herald Tribune) في عددها الصادر بتاريخ 24 أبريل عام 1990م، إذ كتب يقول «ما الذي علينا أن نخشاه بعد أن غابت الشيوعية عن المسرح؟ علينا أن نخاف من زحف كاسح للرأسماليين. علينا أن نقلق من أن موت الشيوعية قد خلف فراغاً في النشاط الايديولوجي الذي يعيش عليه بنو البشر.
سمه ما شئت شيوعية أم اشتراكية من النمط السوفيتي فإن مجرد وجود هذا النظام كان له تأثير عميق على العالم الرأسمالي عبر السنين، ويكفي المرأ أن يفكر بنظام التأمينات الاجتماعية في انجلترا وفرنسا والولايات المتحدة أو في المركز القوي الذي اكتسبته النقابات في العديد من البلاد ليدرك انه كان صحيا بالنسبة للرأسمالية أن تتنافس مع نظام بديل. والأن بعد أن مات البديل الذي يجبر الرأسماليين على أن يكونوا منصفين ما الذي سوف يمنعهم من استغلال البلاد النامية والاقل نمواً في نصف الكره الجنوبي.
ومهما يكن من اختلاف الرؤية حول النظام الدولي إلا أننا لا ننكر أن شيئا كثيراً قد تغير في النظام الدولي يمكن أن نطلق عليه بالجديد أو التجديد الذي بدأت ملامحه تظهر على مسرح السياسة والعلاقات الدولية منذ أن قدم الرئيس الامريكي السابق (جورج بوش) وثيقته حول استراتيجية الامن القومي الامريكي والتي قدمها للكونجرس في يناير 1992 وجاء فيها:
«إن المسألة الأساسية على الصعيد السياسي هي كيفية انعكاس تقلص الخطر السوفياتي على دور أمريكا القيادي في التحالفات، وعلى تحالفاتنا ذاتها وبصورة خاصة في اوروبا.. بيد أن الخلافات مع حلفائنا ستبرز للعيان بصورة أكثر مع انخفاض حدة الهاجس الأمني التقليدي الذي كان وراء وحدة الحلفاء في السابق. ستتابع الولايات المتحدة دعمها لنظام اقتصادي عالمي، شامل، ومنفتح كأفضل وسيلة لتقوية تنمية اقتصادية شاملة من أجل الاستقرار السياسي، ونمو المجتمعات الحرة. وعلى الرغم من ظهور مراكز قوى جديدة، ستبقى الولايات المتحدة الأمريكية الدولة الوحيدة ذات القوة الحقيقية الشاملة، والنفوذ الكبير بمختلف الأبعاد السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والتركيز على تعزيز الأمن وبخاصة في العالم النامي بوسائل سياسية واقتصادية أكثر منها عسكرية، وردنا هو تشديد تأكيدنا على تقوية الديمقراطية، واستثمارات طويلة الأجل في تطوير الموارد البشرية، وبناء الأسواق الحرة، والحكومات الحرة، وتشمل إهتماماتنا الاستراتيجية الشرق الأوسط، وجنوبي آسيا. وتشجع استقرار وأمن اصدقائنا، وتأمين تدفق البترول بحرية، ولجم انتشار الأسلحة ذات الدمار الشامل الكثيف والصواريخ البالستية، وتشجيع عملية السلام التي تؤدي إلى المصالحة بين اسرائيل والدول العربية وبين الفلسطينيين واسرائيل بشكل ينسجم والتزامنا الدائم بأمن اسرائيل. والاهتمام بالأدوار المتنامية لليابان وألمانيا. وبهذا المعنى فإن المفاوضات التجارية الجارية حالياً تحمل الأهمية الاستراتيجية نفسها، والتي أوليناها تقليدياً للمفاوضات حول التسلح مع الاتحاد السوفياتي».
لقد كانت الرؤية الامريكية - من خلال الوثيقة - تدور حول رسالة يجب أن تتحملها أمريكا تجاه العالم - باعتبار تفردها بقيادته وتتلخص هذه الرؤية في دعم الأمن والسلام الجماعي العالمي من خلال تطبيق القانون الدولي ومساندة حركة الديمقراطية وحقوق الانسان وحماية سيادة الدول واخيراً تقديم النموذج الامريكي سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً باعتباره النموذج الامثل لحل مشكلات العالم.
آثار النظام الدولي الجديد:
ومن هنا يمكن ملاحظة ابرز ملامح هذا النظام التي تتمثل في المجالات التالية:
أولاً: المجال السياسي:
1- من الواضح في هذا النظام هو تغير ادوار اللاعبين (الفاعلين) الأساسيين اذ أنفرد احدهما وهو الولايات المتحدة الامريكية - بمعظم الادوار، ولقد كان الرئيس الامريكي الاسبق (ريتشارد نيكسون) أكثر المتحمسين لهذا الأمر وهو يقول: «إن زعامة أمريكا للعالم لن يكون هناك بديل عنها طيلة العقود القادمة، فالولايات المتحدة الامريكية هي الدولة الوحيدة التي تمتلك من القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ما يجعلها تقف في ذروة قوتها الجيوبوليتيكية، واذا ما انحدر وضعها ومكانتها كقوة عظمى وحيدة، فإن هذا سينتج عن الاختيار وليس الضرورة.. إن لدينا فرصة تاريخية لتغيير العالم، ومسؤوليتنا الأولى والاهم يجب أن تكون اعادة تحديد مهمة الولايات المتحدة العالمية، وإعادة صياغة استراتيجيتها واعادة تشكيل وترتيب سياستها الخارجية كي تتلائم مع هذا الوضع الجديد»([11]).
فهل انفردت الولايات المتحدة فعلاً بريادة العالم إن الواقع يشير إلى أن سقوط الاتحاد السوفيتي ترك الساحة فارغة أمام أمريكا، إلا أن الاخيرة لم تستطع أن تملأ هذا الفراغ على الرغم من المحاولات التنظيرية - لذلك، صحيح أنه لا يوجد بديل آخر بمستوى امريكا إلا أنه وحتى الأن - وبعد مرور خمس سنوات - يمكننا الحكم على ما تم إلى الآن باعتبار أن ماحدث لم يتجاوز محاولة ملء الفراغ، فامريكا التي يؤمل لها أن تقوم بذلك، تعاني من مشكلات داخلية وخارجية تعيقها عن القيام بهذا الدور فقد ذكر الباحث (لورانس فريدمان) أن الولايات المتحدة لن تكون القوة العظمى في العالم لعدة عوامل منها ضعف الاقتصاد الامريكي، الأمر الذي يجعل الموارد المالية المتاحة لتمويل هذا النوع من النشاط السياسي الخارجي محدود، بالاضافة إلى كون المصاعب الامريكية الاقتصادية الداخلية سينجم عنها ضغوط سياسية داخلية على الإدارة الامريكية كي تحد من نشاطها الخارجي.
واضاف (فريد مان) إلى أن الضعف الاقتصادي الامريكي عاملاً آخر، وهو عدم قدرة الولايات المتحدة على توفير الإلزام الاستراتيجي لكافة الاطراف بالقواعد التي تحاول فرضها لصياغة النظام العالمي لعدة أسباب منها:
أ- إن جعل استقرار الوضع القائم الأن هو القيمة الاستراتيجية المركزية للنظام العالمي الجديد محكوم عليه بالفشل المستمر، لانه يتعارض مع حقيقة الواقع السياسي الدولي الذي يتسم بالديناميكية والتغير المستمر.
ب - إن الغرب (مناطق الجذب اليوم) يتكون من ثلاثة أقطاب جاذبة يعمل كل منها كقطب جاذب في نطاقه الاقليمي، فالولايات المتحدة قطب جاذب لأمريكا اللاتينية والكاريبي، وأوروبا الغربية قطب جاذب لأوروبا الوسطى والشرقية وشمال افريقيا، واليابان قطب جاذب بالنسبة لآسيا، ومن ثم فالتفاعلات المحتملة بين هذه الأقطاب الجاذبة من شأنها أن تطرح التساؤل، حول إمكانية استمرار الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم.
ج - إن هناك نطاقا كبيرا في العالم يبدو وكأنه خارج نطاق اهتمام النظام العالمي الجديد، وخاصة دول الجنوب، بالرغم من أن هذه الدول تشهد توترات خطيرة، قد تؤثر سلبياً في المستقبل على المصالح الغربية، والملاحظ أن الغرب لا يهتم بأي منطقة في الجنوب، إلا إذا أدرك أن هناك تأثيراً مباشراً على مصالحة، وهو ما يعني إمكانية اختلاف المصالح والرؤى بين الحلفاء الغربيين تجاه بعض قضايا الجنوب.
د - لم تطور الولايات المتحدة بناء مفاهيمياً واضحاً للنظام العالمي الجديد، بل العكس هو الصحيح، فالأطراف الغربية تواجه وضعاً لم تستطع تحديد أبعاده فالمصالح مشوشة، والمبادئ غامضة، والوسائل مبهمة، مع أن السياسة الخارجية تتطلب القدرة على فرض ضغوط متساوية على الأطراف الأخرى، من أجل الالتزام والإلزام بقواعد القانون الدولي([12]).
والسؤال الذي طرح نفسه إلى متي سيظل هذا الأمر قائما؟ هل ستبرز قوى أخرى منافسة، أم أن الولايات المتحدة نظراً لما تعانيه من مشاكل داخلية ستخرج هي الأخرى من المعادلة الدولية؟ فالمعروف أن الولايات المتحدة تعاني من أزمة اقتصادية حيث لم تتجاوز نسبة النمو الاقتصادي في عام 1991 الـ 8% في حين بلغت نبسة التضخم في نفس العام 3ر4% وارتفعت نسبة البطالة وتعاظم العجز في ميزان التجارة الخارجي كما تحولت الولايات المتحدة من أكبر دولة دائنة إلى أكبر دولة مدينة، حيث تقدر ديونها الخارجية بـ 4 الاف مليار دولار وهو ما يساوي ثلثي ديون العالم الثالث تقريباً وقد ارتفع العجز في الميزانية العامة مابين عامي 1980،991 من 8ر37 إلى 1ر813 مليار دولار تقريبا. وتعاني كذلك من تدني مستوى التعليم العام الذي يتضح في التقرير الذي صدر في عهد الرئيس رونالد ريغان تحت عنوان «أمة في خطر» (Nation at Risk) إضافة إلى ارتفاع معدلات الجريمة حيث ارتفعت معدلاتها في 27 ولاية إضافة إلى العاصمة واشنطن. ففي ولاية تكساس ارتفعت بواقع 51% وفي نيوهامشر بنسبة 52% وفي فيرمونت بنسبة 71% وفي نورث داكاتو بنسبة 125% وتشير التقارير إلى أن معدلات الجريمة قد ارتفعت في عام 1991 بواقع 7% عن عام 1990.
وتعكس الاضطرابات العرقية التي شهدتها المدن الأمريكية في ايار مايو 1992 حالة لانهيار في المجتمع الأمريكي ويعاني المجتمع الامريكي كذلك من الخلل في البنية الاجتماعية وغياب العدالة الاجتماعية. والمؤشرات في هذا الصدد عديدة، وسنكتفي بالإشارة إلى بعض الظواهر الاجتماعية التي تعكس الوضع السائد في المجتمع فمثلاً ازدادت في الآونة الأخيرة نسبة الأسر ذات الوالد الوحيد أو ما يعرف بـ Parent Family single، حيث ارتفعت بين السود إلى 56% في حين لم تكن تتجاوز في عام 1950 الـ 17% وتبلغ معدلات الولادة خارج مؤسسة الزواج بين السود 63% في حين تصل بين البيض إلى 10% وعلى صعيد غياب العدالة الاجتماعية والتفرقة العنصرية فيتضح مثلاً في مطالبة المدّعين في جورجيا بانزال عقوبة الاعدام في 70% من الدعاوي التي اتهم فيها مواطنون سود بقتل البيض أما في حالة المواطنين البيض الذين اتهموا بقتل السود فلم يطالب هؤلاء بحكم الاعدام إلا في 15% فقط من هذه الحالات وتتجلى مظاهر التفرقة في السلوك الانتخابي للشعب الامريكي ورفضه لزعامة شخص أسود لبلاده وكذلك في العزلة شبه المفروضة على مناطق السود والأحياء التي يغلب عليها السكان السود خاصة في الولايات الجنوبية. كما تبلغ نسبة السود في سجون الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 45% وأصبح الشباب الأمريكي شباب «البوب» والمخدرات والطرب والجنس. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن من سيحكم الولايات المتحدة خلال العقود الخمسة القادمة؟ وهل يمكن لهذه النوعية من الأجيال المحافظة على مكانة الولايات المتحدة الدولية؟ هذا بالطبع ما سيكشف عنه المستقبل على المدى المتوسط ان لم يكن القريب. وفي تقديري فإن انفراد الولايات المتحدة بالنظام الدولي هو انفراد انتقالي أو مؤقت وذلك لأمرين: الأول التطورات في داخل المجتمع الأمريكي والثاني يتعلق بالتطورات الخارجية وعليه هل ستبرز اليابان أم ألمانيا أم الولايات المتحدة الأوروبية أم كل منها.
ونظراً إلى أن المحافظة على المكانة الدولية التي اكتسبتها الولايات المتحدة تتطلب الاستمرار في صلابة الجبهة الداخلية فإن المشكلات الاجتماعية التي تعاني منها وانخفاض نموها الاقتصادي وارتفاع ديونها الخارجية سيفقدها مكانتها الدولية وقدرتها على الاستمرار في الهيمنة على النظام الدولي. ويتجلّى ذلك في تخفيض بند المعونات الخارجية في الميزانية الأميريكية. ونتيجة لهذه المشكلات برزت الأصوات المنادية بالعودة إلى العزلة ورفع شعار «أمريكا أولاً» الأمر الذي يعني أن الأولوية من الآن فصاعداً ستكون لعلاج المشكلات والقضايا التي يعاني منها المجتمع الأمريكي داخلياً، ويرى هنري كيسنجر أن «هناك تنامياً في الرغبة بالعزلة لدى اليمين واليسار الأمريكيين. وموقع الولايات المتحدة في العالم يعتمد على المعونات الخارجية وبرنامج المعونات يتناقص فعلاً. أما بالنسبة إلى رغبة الأمريكيين في العزلة فهي ظاهرة موجودة وتتنامى لدى الجانبين «الجمهوريين والديمقراطيين»([13]).
ولقد تأكد هذا الموقف مع فوز الجمهوريين في الانتخابات البرلمانية واكتساحهم لمواقع كانت حكراً على الديمقراطية كما استطاعوا انتزاع اغلبية برلمانية لم تتحقق لهم منذ فترة طويلة مما يسهل لهم تنفيذ اتجاهاتهم السياسية الراميه إلى تقليص الدور الامريكي الخارجي والسعي لحل المشكلات الداخلية.
وهنا يأتي، السؤال الاهم - بالنسبة لنا - وهو: ماموقفنا - كعرب ومسلمين - من هذه المسألة، لقد بدا موقفنا من خلال التالي: أسرع كثير منا إلى تسليم مفاتيح امره إلى الولايات المتحدة الامريكية - سيدة النظام الدولي الجديد - وكان الامر قد اصبح «حتما مقضيا» ولذلك تداعت كثير من الاعمدة امام هذا التصور وخرج الموقف العربي والإسلامي باضعف النتائج وأقل المكاسب، ولم نبحث عن بدائل اخرى (نناور) فيها بمواقفنا، إذ أن الموقف العربي والإسلامي يملك من الأوراق ما يستطيع من خلاله - لو أحسن استغلاله - تغيير كثير من تأثير السياسة الامريكية تجاه العالم العربي والإسلامي، فالنفط ومحادثات السلام مع اسرائيل، والاستثمارات المالية الكبيرة لدى المؤسسات الغربية التي تصل إلى (150) مليار دولار، في الولايات المتحدة الامريكية، وكذلك الاسواق المفتوحة امام المنتجات الامريكية التي بلغت عام 1992 نحو 6ر17 مليار دولار. تلك بعض من الاوراق التي يمكن ان تكون مؤثرة في الموقع الامريكي في النظام الدولي.
2- تقوم فكرة هذا النظام على إرساء العقلانية السياسية كي تصبح واقعا نهائيا في الممارسة على جميع المستويات الداخلية والخارجية، الاقليمية منها والعالمية، وبالتالي تعمل هذه العقلانية على الضبط وعدم السماح لاي اختراق لها من خلال ممارسات الدول الداخلية، وما هو يتعارف عليه بحفظ حقوق الانسان والمساواة والمشاركة السياسية والخارجية من خلال اقرار السلم على المستويات المختلفة وحل المشكلات بالطرق السلمية وما يتبع ذلك من ضبط للسلوك السياسي والعسكري ومن هنا يمكننا ان نتصور اتجاه الدول الكبرى إلى التخلص من الاسلحة التدميرية الشاملة وخاصة النووية منها، وكذلك محاولة ضبط الدول ذات القوة العسكرية المتنامية وعدم اتاحة الفرصة لها حتى لا تشكل تهديداً لهذا النظام، ويتبع ذلك تنشيط للمؤسسات والادوات التي يمكن ان تستعمل لتحقيق هذا الغرض كالمنظمة الدولية للطاقة النووية وكذلك منظمات حقوق الانسان والعفو الدولية وغيرها من المؤسسات التي يمكن ان تكون فعالة في هذا المجال، كما تستخدم المساعدات الاقتصادية لهذا الضبط، اذ تشترط كثير من الدول والمنظمات الاقتصادية ليس ادخال تعديلات اقتصادية فقط بل سياسية في الدول التي يراد تقديم المساعدات المباشرة أو الدولية لها، وتصبح المنظمات الدولية لحقوق الانسان اداة فعالة اخرى من خلال تقاريرها ودراساتها وتأثير وسائل الاعلام في استخدام هذه التقارير في تغيير اتجاهات الرأي العام نحو اي نظام سلبا أو ايجابا ولقد بدت آثار النظام الدولي واضحة خلال السنوات الاخيرة اذ اتجهت الدول الغربية على اعتماد هذا المنهج في التعامل مع القضايا السياسية الدولية وخاصة في دول العالم الثالث حيث تغيب العقلانية السياسية فى كثير من الدول بهذه المنطقة.
ولقد تم تنفيذ هذا التصور من خلال التدخلات السياسية والعسكرية التي قامت بها الولايات المتحدة الامريكية - بصورة رئيسية - وبعض الدول المساندة لها في موقفها كما وضح ذلك اثناء ازمة الخليج الثانية، وهايتي، ومشكلة المفاعلات النووية في كوريا الشمالية اذا استخدمت القوة العسكرية في الأولى والحصار العسكري في الثانية، بينما تم استخدام الضغوط السياسية والاقتصادية في الحالة الثالثة.
3- غابت الايديولوجيا (السياسية) عن مسرح الاحداث بصورة كبيرة، إذ مع انهيار النظام الشيوعي - كنظام سياسي - تراجع الفكر الشيوعي أو الاشتراكي بصورة عامة وكذلك الافكار التي تستند على بعض منطلقاته الفكرية كالقومية والوطنية التي تستمد بعض افكارها من الفكر الاشتراكي ولذلك وجدنا انحساراً في الاحزاب الشيوعية أو الاشتراكية على المستوى العالمي اذ اصبح تأثيرها محدداً في اتجاهات الرأي العام بل إن كثيراً من الاحزاب الاشتراكية والشيوعية - خاصة في العالم الثالث - سارعت إلى التخلي عن الشيوعية كمنطق عقائدي لتستعيض عنها بالاشتراكية الديمقراطية أو الاجتماعية، إلا أن (الأيديولوجيا الفكرية) لم تغب عن الساحة بشكل تام اذ بدت اتجاهات ايديولوجية (دينية) تحل محل سابقتها خاصة في دول العالم الثالث كدول العربية الإسلامية اذ سريعا ما نشطت الفكرة الإسلامية لتكون بديلاً عن سقوط الاشتراكية، كما صعدت الاحزاب الديمقراطية المسيحية في بعض البلدان الاوروبية وكذلك دول امريكا اللاتينية، ولذا فمن الخطأ القول بأن قيام النظام الدولي الجديد انهى عهد (الايديولوجيا السياسية) بل يمكن القول إن الذي حدث هو استبدال فكر بآخر.
4- اعتمد النظام الدولي الجديد على المشروعية الدولية كأداة فعالة لحل كثير من المشكلات خاصة فيما يتعلق بالأمن والسلام الدوليين، وذلك في إقرار من اللاعبين الرئيسيين في النظام الدولي لأهمية الدور الذي يمكن أن تقوم به الأمم المتحدة. ففي بداية التحول نحو النظام الجديد أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي بياناً مشتركاً في ختام مباحثات وزير خارجية البلدين - آنذاك - (جيمس بكير وإدوار شيفرنادزه) في 12 أكتوبر عام 1990م تحت عنوان «حول المسؤولية عن السلام والأمن في عالم متبدل» جاء فيه:
«أولاً: يؤكد الطرفان أن الأمم المتحدة قادرة على لعب دور رئيسي في حل القضايا العالمية الشاملة، وأن التخلي عن المواقف العقيمة غير المرنة التي تمليها تصورات ودوافع أيديولوجية يمثل شرطاً ضرورياً لخلق جو من الثقة في الأمم المتحدة بين كافة أعضائها.
ثانياً: يؤكد الطرفان عزمهما على تأييد ودعم الجهود التي تبذل في نطاق الأسرة الدولية والرامية إلى تحقيق وتعزيز مبادئ السلام والأمن والتعاون الدولي.
والواقع أن الفقرة الأولى من هذا البيان هي تأكيد لتخلي الاتحاد السوفيتي عن دوره في معارضة السياسة الأمريكية إذ كثيراً ما يلجأ لاستخدام حق النقض الفيتو لتعطيل المواقف السياسية الأمريكية ولجم مصالحها خاصة في دول العالم الثالث التي كان للاتحاد السوفيتي وجوداً مؤثراً في كثير منها.
إلا أن تنازل الاتحاد السوفيتي عن دوره هذا قد وفّر غطاءً من الشرعية الدولية للمواقف الأمريكية أو تلك التي ترغب أمريكا في تمريرها. وقد أخذت الأمم المتحدة تحوز على حين غرة على ثناء لم تعهده من قبل. فتحت عنوان «الأمم المتحدة تبلغ الرشد» أشاد محررو صحيفة بوسطن غلوب بظهور «تغيير رائع في تاريخ المنظمة». وروحية جديدة من المسؤولية والجدية إذ أخذت هذه المنظمة تدعم المبادرات الأمريكية لمعاقبة المعتدي. وامتدح آخرون كذلك هذا التحول الحميد عن النمط المخزي الذي كان سائداً في الماضي.
وقد عُزي التغيير المحمود في عمل الأمم المتحدة إلى تحسن في سلوك العدو السوفياتي وانتصار الولايات المتحدة في الحرب الباردة، جاء في تقرير إخباري للصحيفة المذكورة آنفاً «أن الإدانة السريعة التي صدرت عن موسكو للغزو العراقي قد أطلق يد مجلس الأمن الدولي، وكان مشلولاً من أمد طويل بفعل المنافسة بين الدول العظمى، وجعل المجلس يقوم بدور جوهري جواباً على العدوان. وكتب مراسل جريدة نيويورك تايمز ،ر.و. آبيل، يقول إن واشنطن «تعتمد أكثر فأكثر في صنع قراراتها على الأمم المتحدة، فهي الآن أكثر فعالية مما كانت عليه في عقود مضت بسبب انتهاء الحرب الباردة». وأشاد مقال افتتاحي في الجريدة المذكورة بـ «التغيير الهائل المدهش» عندما أخذت الأمم المتحدة تنحو أخيراً نحو الجدية، فتلقم حجراً في أفواه «أغلبية المستصغرين لشأنها «وتتيح للرئيس بوش أن يتابع مجهوده النبيل لخلق نظام عالمي جديد لحل المنازعات بالدبلوماسية المتعددة الأطراف والأمن الجماعي». وفي جريدة واشنطن بوست استعرض جون غوشكو خلفية هذه اللحظة النادرة في تاريخ الأمم المتحدة، التي أخذت تعمل فجأة بالطريقة التي صمّمت المنظمة لكي تعمل بموجبها، فتحولت إلى وسيلة للسلام العالمي «بعد سنين من رميها بالفشل واعتبارها منبراً لشعوذة العالم الثالث خلال المنافسة الطويلة أيام الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وحلفائه». إن التصور الأصلي للأمم المتحدة باعتبارها قيّمة على عالم يسوده السلام «قد حيل بينه وبين التحقيق، منذ البداية، بفعل الحرب الباردة المريرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. في تلك السنين الأولى كانت صورة الأمم المتحدة التي انطبعت في وعي العالم هي صورة سفراء سوفيات عابسين وهم يُدلون بأصوات النقض أو يخرجون غاضبين من اجتماعات مجلس الأمن»، في حين حول الأعضاء الجدد من العالم الثالث «الجمعية العامة إلى منبر لإلقاء الخطب الطنانة في مناهضة الغرب... من ثم، وقبل زهاء سنتين، أخذ يسود التغيير نتيجة ما حدث في السياسة السوفيتية الخارجية من تغييرات تتجه نحو الوفاق». وأضاف ديفيد بروردر، كبير المعلقين السياسيين في الجريدة المذكورة موافقته على هذا قائلاً: «في خلال السنين الطويلة من الحرب الباردة جعل الفيتو السوفياتي، والعداء الذي يبديه عدد من دول العالم الثالث، من الأمم المتحدة موضوعاً للاحتقار لدى كثير من السياسيين والمواطنين الأمريكيين. أما في مناخ اليوم المتبدل فقد أثبتت المنظمة أنها أداة فعالة للزعامة العالمية وأنها يمكن أن تكون مؤسسة بوسعها أن تحقق السلام وحكم القانون معاً في المناطق المضطربة».
أجرى جورج بول تحليلاً نقدياً لسياسة الحكومة نشرته صحيفة نيويورك رفيو إفتتحه بالقول: «مع انتهاء الحرب الباردة وابتداء أزمة الخليج يمكن الولايات المتحدة الآن أن تختبر صلاح المبدأ الذي وضعه ولسون في الأمن الجماعي، وهو اختبار استبعده الفيتو السوفياتي الآلي في مجلس الأمن خلال أربعين سنة مضت». وفي تقرير أذاعته هيئة الإذاعة البريطانية، وكان تقريراً عن الأمم المتحدة، قال منظم التقرير مارك أربان: «كان الاتحاد السوفيتي، إبان الحرب الباردة، يستخدم مراراً وتكراراً حقه في نقض القرارات لحماية مصالحه من خطر تدخل الأمم المتحدة. وطالما كان جواب الكرملين في المجلس يتلخص بكلمة كلا، فإن المناقشات ظلت عدائية فيه». أما الآن «فموقف الاتحاد السوفيتي مختلف تماماً»، فالاقتصاد فيه يواجه الانهيار «وفي البلاد زعيم يؤمن بالتعاون».
نفهم من هذا، إذن، أن المنافسة بين الدول العظمى، والعرقلة الروسية، واستخدام الفيتو السوفيتي باستمرار، والخلل المرضي في العالم الثالث، كل ذلك حال دون قيام الأمم المتحدة بمسؤولياتها في الماضي([14]).
فهل يعني هذا أن الولايات المتحدة (مبرأة) من ذلك، إن الواقع يشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية استخدمت منذ عام 1970م وحتى عام 1990م، 58 مرة حق النقض الفيتو، منها 45 مرة وحدها، والمرات الأخرى بالاشتراك مع بريطانيا تارة، وتارة أخرى مع بريطانيا وفرنسا.
أما بريطانيا فقد استخدمت حق النقض الفيتو 26 مرة، منها 11 مرة مع الولايات المتحدة وفرنسا. وقد استخدمت فرنسا الفيتو خلال المدة المذكورة 7 مرات وحدها. أما الاتحاد السوفيتي فقد استخدم الفيتو 8 مرات أحداها مع الصين!!
فإذا كانت المجموعة الغربية قد أهملت المشروعية الدولية خلال هذه السنوات الطويلة، فما سر الصحوة المفاجئة للشرعية الدولية؟ إن السبب في ذلك يرجع إلى غياب المبرر (المشروع) للتدخل، فقد كان التحدي السوفيتي سبباً مقنعاً لكثير من الدول للقبول بالتدخل أو استخدام القوة لإحلال السلم في كثير من المواقع، كما أن التهديد الشيوعي - كان - يشكل رعباً للدول الرافضة له، ولذا فقد كان اللجوء إلى قوة أخرى له ما يبرره ويسنده، أما بعد غياب هذا العدو أصبح من الضرورة بمكان إيجاد غطاء شرعي لذلك، وهنا كانت الأمم المتحدة أو المشروعية الدولية هي تلك المظلة التي تؤدي الغرض.
لقد كانت الشرعية الدولية، إما مغيبة أو مجمدة في دهاليز مجلس الأمن والمنظمات الدولية التي تتحكم بها الدول الكبرى، أو يعطى لها تفسيرات لتوظف لمصالح الأقوياء. وعليه فإن حفظ ودوام واستقرار النظام الدولي - نظام مؤتمر مالطا - لم يكن بسبب الالتزام بمبادئ القانون الدولي واحترام ميثاق الأمم المتحدة، بل غالباً بسبب ميزان القوى بين العظميين أو توازن الرعب بينهما، أو المصلحة المتبادلة بينهما في الحفاظ على الحد الأدنى من الاستقرار، دون أن يعني هذا أن القوة هي الضابط الوحيد للعلاقات الدولية، بل كانت تتخللها علاقات قانونية وتفاهم مشترك، أو على حد الخبير ريمون أرون «إن الحرب والسلم وجها عملة واحدة». فالمراقب للعلاقات الدولية خلال العقود الأربعة الماضية، يلاحظ أن الدول العظمى كانت تدفع بالشرعية الدولية وتتباكى عليها وتحض على احترامها، إن حدث خلاف أو صراع أطرافه من العالم الثالث من غير حلفائها، حيث تفرض الدول الكبرى على الدول الصغرى الانصياع للقانون الدولي ولنصوص الميثاق بتأويلات وتفسيرات لا تتناقض مع مصالح الأولين، مثل الحفاظ على الحدود بين الدول التي رسمها الاستعمار أو احترام حقوق الإنسان إن كان خرقها من طرف دولة غير موالية لهم. أما إذا كان الصراع الناشب يتعلق بمصالح مباشرة واستراتيجية لدولة من الدول الكبرى، وخصوصاً إن كان الصراع يتعلق بأمور تمس العلاقة بين القوتين العظميين، فنادراً ما كانت تلجأ لدول الكبرى إلى مبادئ الشرعية الدولية إلا إذا كانت ترمي إلى انتزاع قرار أو تفسير قانون يطلق يدها بالتصرف»([15]).
لقد خرقت الولايات المتحدة مبدأ الشرعية الدولية عندما غزت غرنادا في عهد (رونالد ريجان) وغزت بنما في عهد (جورج بوش)، بل إن الشرعية الدولية كانت تأتي لاحقة لبعض العمليات التي تقودها الولايات المتحدة كما حدث في حصار (هايتي) ودخول (الصومال)، إن تحليلنا هذا لا يعني التقليل من أهمية الشرعية الدولية بل نحن نؤكد على ذلك، لأن هذه الشرعية هي أساس للعلاقات الدولية التي يجب أن تنشأ بين الدول، كما أنها أساس لإحلال السلام العالمي، ومن دونها تبقى الصراعات المحلية والإقليمية والدولية دون أداة فعالة تلجمها، إلا أن الشرعية الدولية لاتكال بمكيالين، فقد فشلت هذه الشرعية في إحلال السلام في البوسنة والهرسك، كما فشلت فى كرواتيا وكذلك الصومال وأفغانستان وفي (ناجورنو قرباغ وكشمير) وقبرص، وغيرها من (ثقوب) العالم الملتهبة.
وهنا يأتي سؤالنا عن موقعنا من النظام الدولي في هذا المجال:
لاشك أن الأمة العربية والإسلامية تتأثر تأثراً مباشراً بهذا النظام، ولإن كان سقوط الشيوعية هو أحد الدوافع لإبراز ملامح هذا النظام فإن حرب الخليج الأولى والثانية كانتا الدافع الثاني لذلك، إذ أبرزت هذه الحرب حاجة «عملية» للعقلانية السياسية في التعامل مع القضايا الإقليمية والدولية.
إلا أن حماسنا لملامح هذا النظام يجب ألا يذهب بنا بعيداً، حيث أن موقعنا في هذا النظام هو الأضعف، فعلى الرغم من أهمية منطقتنا اقتصادياً واستراتيجياً إلا أنها لا تشكل ثقلاً واضحاً في صياغة هذا النظام والتأثير فيه، بل تكاد تتأثر به تأثراً سلبياً، لا لأن هذا النظام وجه بصفة عامة لإضعاف شأن هذه الأمة - كما يتصور البعض - بل لأن الضعف ناتج من ذاتنا ومن أنفسنا، مما لم يوفر لنا مكاناً مرموقاً بين الآخرين، وهذا لا يمنع من القول أن جزءاً من أهداف هذا النظام موجه لاستمرارية الأوضاع السيئة التي تحياها الأمة الإسلامية، فحين نتحدث عن العقلانية السياسية في هذا النظام علينا أن ننظر إلى واقعنا السياسي، وحين نتحدث عن حقوق الإنسان وكرامته أو المشاركة، علينا أن نبحث في ملفات منظمات حقوق الإنسان التي لا نزعم أنها تلتزم الدقة والحياد فيما، تكتب، ولكن لانزعم كذلك أنها أتت بما كتبت من فراغ أو أن ما تكتبه من تقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان لا علاقة له بنا.
وحين يتحدث العالم عن المشاركة السياسية، يتصور أبناء الإسلام أنهم جزء مما يلف العالم اليوم من دعوات للمشاركة والديمقراطية، وينسى هؤلاء أن رؤية الآخرين (أعني بهم القائمين على توجيه النظام) لهذه المشاركة إنما هي رؤية أحادية تنطلق من فهمهم لهذه المشاركة من خلال النظام الديمقراطي الغربي الذي صيغ على أسس ومعايير خاصة بمجتمع ذي مواصفات معينة، ولذا فهم لا يسندون الديمقراطية إلا عندما تطرح وفق هذا التصور الذي يحفظ لهم سيادة المفاهيم الغربية في المجتمعات الأخرى، أما عندما تأتي الديمقراطية ببديل آخر فإن موقفهم من الطرح الديمقراطي يختلف كلياً بل يقف منه أحياناً موقف العداء.
2- المجال العسكري:
يعتمد النظام الدولي الجديد على مبدأ الحد الأدنى من الفعل العسكري أي لا يصبح الحسم العسكري إلا علاجاً لحل نهائي لمشكلة قائمة حيث يستبدل الفعل العسكري بالحلول السلمية من خلال المفاوضات وطاولات المباحثات، مع الاحتفاظ بالقوة العسكرية السيادية أي التي تكون بيد القوى التي تسود العالم والتي من خلالها يمكن أن تلوح بالعصا الغليظة أو توجع بها إذا لزم الأمر، ومن هنا نجد أن ملامح هذا النظام بدأت من خلال السعي لحل المشكلات بين الدول بالطرق السلمية، ولعل الهدوء الذي مر به تفتيت الاتحاد السوفيتي وإضعاف قوته، وكذلك التغييرات الهادئة أو شبه الهادئة التي عاشتها أوروبا الشرقية «باستثناء رومانيا» يشير إلى أن التحول إلى حالة (رفض القوة في التغييرات) تعطينا مثالاً واضحاً على أثر هذا النظام في حل الأزمات السياسية الداخلية للمجتمعات وكذا الدولية، إذ أن هذه الأزمات السياسية العسكرية ستكون مهيئة لاطفاء حرائقها من خلال العمل السلمي، مع الاحتفاظ ببعض مواقع التوتر مشتغلة لتحقيق أغراض أخرى.
وهنا نسأل مرة أخرى، ما موقعنا في هذا المجال؟ ولا نستعجل الإجابة حين نرى أن هذا الجانب من ملامح النظام الدولي الجديد يأتي في ظل تجربة عسكرية سيئة لما يمكن أن يكون عليه الفعل العسكري وأعني بذلك العمل العسكري الذي قاده صدام لاحتلال الكويت وإدخال المنطقة في اضطراب عسكري وسياسي وماتلى ذلك من تقليم أظافر هذه القوة التي ربما كان لها دور بارز في تحديد موقع للعرب والمسلمين في المجال العسكري للنظام الدولي لو حسن استغلالها ووجهت التوجيه الصحيح، إلا أن هذه التجربة قد جعلت الفعل العسكري العربي والإسلامي على محك الاختبار، مما عممت مع الرؤيا على القوى العسكرية غير الموجهة وغير المنضبطة في منطقة الشرق الأوسط، وأعطي المبرر القوي لتداعيات النظام الدولي الجديد من أجل تصفية المنطقة من القوة العسكرية، إذ لم يقتصر الحكم على تجريد العراق من أسلحته التدميريه بل امتدت إلى كل قوة عربية أو إسلامية ولعل محاولة حمل مصر على توقيع اتفاقية الحد من الأسلحة النووية مع السماح لإسرائيل بذلك خير دليل على هذا الموقف، وهناك نموذج آخر لتحجم القوة العسكرية في الشرق الأوسط وهي باكستان التي تتعرض لحملة شرسة من أجل تحجيم الدور الباكستاني في القوة النووية ومحاولة إثارة هذه القضية بصورة أكبر من حجمها وإبرازها كظاهرة خطرة في منطقة الشرق الأوسط على الرغم من محاولات باكستان تبرئة نفسها بتوجيه هذه القوة لخدمة الأغراض السلمية وعلى الرغم كذلك من أن باكستان ليست القوة الوحيدة في المنطقة التي تحاول امتلاك الطاقة النووية، فجيرانها قد سبقوا إلى امتلاك القنبلة النووية.
3- في المجال الجيو - سياسي:
لاشك أن من أبرز ملامح النظام الدولي الجديد هو اتجاهه نحو التعامل (الكتلي) أي إلى الكتل والمجموعات الكبرى، إذ لم تعد الدولة مرتكزاً أساسياً في رسم تصورات المستقبل مهما كان من حجم لهذه الدولة على المستوى السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو السكاني، ولذا فإن أنظمة الدول المستقلة لن تجد لها مكانا بارزاً إلا من خلال تكتلات كبرى بدت ملامحها من المجموعة الأوربية التي تشكل أقوى قوة اقتصادية، كما بدت هذه الصورة من خلال التداعي السريع لإنشاء كتلة - رغم هشاشتها وضعفها - لترث الكتلة الشيوعية المنهارة، وهي كتلة دول الكومنولث المستقلة، وكذا مجموعة الدول الصناعية، وما تتجه إليه منظومة دول جنوب شرقي آسيا من تكتل تبحث من خلاله عن مكان لها بين دول العالم الجديد وتبدو هذه الكتل من خلال التقاء المصالح الاقتصادية في عالم تتنافس فيه المصالح، بل تكاد تسير شؤون العلاقات الدولية المعاصرة بصورة شبه كاملة إلا أن هذه التكتلات لا تتوقف عند نقطة المصالح الاقتصادية بل تمد نظرها إلى أفق بعيد أرحب وأشمل للتحول بعد ذلك إلى كتل سياسية كبرى، ولعل نموذج الوحدة الأوربية واضح في هذا الأمر، فالعصر القادم هو عصر التكتلات أو المجموعات السياسية الكبرى الذي تحتفظ فيه الدول القطرية بشخصيتها القانونية ومكانتها وسيادتها، إلا أنها تدور في فلك واسع هو الكتلة التي تنتمي إليها.
في ظل هذه التحولات الكبرى نجد أن الأمة العربية والإسلامية تعيش واقعاً مغيبا، فحين يتجه العالم إلى التكتلات نجد أننا مازلنا نراوح مكاننا في رؤيتنا للتكتلات، فبعد تجارب مريرة كان دافعها العاطفة والمزايدات والشعارات الجوفاء نحو وحدة عربية شاملة وما تلي ذلك من تجارب نظرية وعملية فاشلة لم تجن منها الأمة إلا الفشل والدمار وغياب الحريات وسيادة الرأي الواحد والفكر الواحد والحزب الواحد، وعجزت كل المشروعات الوحدوية عن تحقيق الحد الأدنى من ذلك، بل كانت تجربة مريرة عندما تحققت بعض نماذج هذه الوحدة.
وفي ظل ذلك تجسدت الدولة القطرية وأصبحت واقعاً قانونيا لابد من التعامل معه وحين نتحدث عن الوحدة والتكتلات تقفز إلى أذهاننا الصورة المقابلة وهي الدولة القطرية، وكان هذه المقابلة تعني التضاد والتصادم ولا تعني حلاً ثالثاً أو بحثاً عن حل آخر.
إن واقعنا العربي والإسلامي وما يسوده من تفرقه وتمزق لا يؤهلنا إلى موضع قدم في مسيرة النظام الدولي الجديد، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال تكتل واضح المعالم محدد القسمات يستطيع أن يزاحم هذه المتغيرات ليحدد مكانه، ولا يعني ذلك العودة إلى الصور والنماذج السابقة لإقامة مثل هذه التكتلات، ولكن من خلال طرح رؤى جديدة تستطيع أن تواكب العصر الذي نعيش فيه محتفظة معه بخصوصية المنطقة وطبيعتها.
4 - في المجال الاقتصادي:
تبدو ملامح النظام الدولي الجديد من خلال اعتماد المصالح الاقتصادية محور أساس في تكوين هذا النظام واستمراريته، إذ يربط هذا النظام بين المتغيرات السياسية والاقتصادية ربطاً وثيقاً يجعل من المسألة الاقتصادية مسألة تقرير مصير لبعض الدول، ولعل نموذج الانهيار السوفيتي واضح الدلالة على مانقول، إذ أدى العجز الاقتصادي لمؤسسات الدولة إلى تداعي أركان الدولة كلها فلم تستطع القوة العسكرية الضاربة ولا الموقف السياسي المتميز ولا التقدم العلمي الذي أوصل الإنسان إلى الفضاء من وقف الانهيار لأركان الدولة، بل كانت المشكلة الاقتصادية أبرز المشكلات السياسية الداخلية (على الأقل) لسقوط الاتحاد السوفيتي، لذا كانت المواجهة المتوقعة على الساحة العالمية، ألا تكون مواجهة عسكرية كما كانت في المرحلة الماضية، بل ستحل محلها المواجهة الاقتصادية أو ما يمكن أن نسمية الحرب الاقتصادية الباردة، بل ربما دفعت المشكلة الاقتصادية إلى عودة المحورية في النظام الدولي ولكن على أسس اقتصادية بعد أن كانت عسكرية، فهناك قوى اقتصادية كاليابان وألمانيا «أو المجموعة الاقتصادية الأوربية بصفة عامة» يمكن ان تشكل أقطاباً في هذه المحورية الجديدة للنظام الدولي.
وإذا كان هناك اختلاف حول مدى تأثير الاقتصاد ودوره فى تشكل النظام الدولي الجديد، إلا أن هناك إجماع أو شبه إجماع على أن النفط هو الركيزة الأساس - على الأقل في السمتقبل القريب - لأي نظام اقتصادي عالمي. وغني عن القول مدى تأثير النفط، لا في المتغيرات الاقتصادية فقط، بل في التحولات السياسية، وإذا كنا نتحدث عن النفط فإننا نتحدث عن ذاتنا وعن مصدر من مصادر قوتنا، ولكن الحديث عن ذلك يجب ألاّ يذهب بنا إلى بعض التصورات التي تجعل من النفط سلاحاً مسلطاً على رقاب البشرية نستغله لتجويع الآخرين وتدمير حياتهم، بل يجب أن يكون واضحاً أن العالم المعاصر تداخلت فيه المصالح بحيث أصبحت تشكل وحدة واحدة. لذا فإننا عندما نتحدث عن ذلك نتحدث عنه باعتباره وسيلة تواصل مع الشعوب الأخرى، وسيلة تحقق المصالح لجميع الأطراف على أسس من المساواة والتكافؤ والتكامل لا على أساس من التفرقة أو الاستغلال من أي طرف. ولذا فإننا تعاملنا مع النفط كسلعة يدفعنا إلى التعامل معه كمؤثر مهم في أبراز دور لنا في ملامح ومستقبل النظام الدولي الجديد.
الموقف من النظام الدولي الجديد
1- لاشك أن المنطقة العربية والإسلامية من أكثر المناطق تأثراً بالمتغيرات الدولية الأخيرة - خاصة سقوط الاتحاد السوفيتي - إذ لم يعد أمامهم خيار سوى التعامل من فاعل واحد أو صورة واحدة من الفاعلين الدوليين في النظام الدولي. ومعنى ذلك أن فرص الخيار والتحرك بالنسبة لهم محدودة وضئيلة، مقارنة بما عليه في السابق. ولقد بدا ذلك واضحاً من خلال مشروع السلام في الشرق الأوسط، إذ انعكست هذه المتغيرات بصورة واضحة على موقف الدول العربية التي - كانت - رافضة لمسيرة السلام وأصبحت من أكثر المرحبين والداعين لها. وقد انعكس ذلك على المكاسب التي حققها العرب من هذه العملية، إذ أنها لو بدأت مبكرة - مثلاً - بعد حرب أكتوبر أو مع اتفاقية السلام الأولى (كامب ديفيد) لكان موقفهم التفاوضي ومكاسبهم أكبر مما هي عليه.
2- إن التحولات الأخيرة حدثت في ظل إنهيار للنظام الإقليمي العربي والإسلامي وتفتت وحداته وعجز مؤسسات النظام العربي كالجامعة العربية ومنظماتها المتخصصة وكذلك منظمة المؤتمر الإسلامي عن القيام بدورهم الإيجابي في دعم هذا النظام ومساندته. ولذا يدور الحديث في أروقة السياسة «عن احتمالات إنهاء النظام الإقليمي العربي بعضها على أساس أقاليم فرعية وبعضها الآخر على أساس توازنات بين قوى حقيقية راغبة في الالتزام التعاقدي حول صيانة السلام الإقليمي، وعليه فإن الدول العربية ستصبح جزءاً من نظامين أمنيين، الغلبة فيهما لأطراف غير عربية، الأول هو النظام الشرق أوسطي الذي سيشتمل على البلدان العربية الأسيوية ودول وادي النيل وكل من إيران وتركيا والجمهوريات الإسلامية الجديدة وإسرائيل، والثاني دمج دول شمال أفريقيا فيما يعرف بأمن حوض البحر الأبيض المتوسط وربطها بأوروبا، وفي كلتا الحالتين فإن الولايات المتحدة الأمريكية هي محور الإرتكاز لهذه التكتلات الأمنية»([16]).
وقد بدأت مؤشرات هذا التقسيم تبدو من خلال موقف الدول المؤثرة في النظام الدولي الجديد، ففي بيان قمة المجموعة الأوربية في 15 فبراير 1995 م لم يرد ذكر لكلمة العرب أو الدول العربية خلال البيان، وإنما ورد تقسيم للدول العربية على أساس المجموعات الأقليمية، فجاءت دول مجلس التعاون الخليجي واليمن والعراق والأردن وإيران ضمن محور الشرق الأوسط، بينما جاءت مصر وسوريا ولبنان وشمال أفريقيا وتركيا ضمن محور الدول المطلة على البحر الأبيض المتوسط، أما السودان وموريتانيا وجيبوتي والصومال وجزر القمر فجاءت ضمن محور المجموعة الأفريقية. ومع إقرارنا جميعاً بضعف النظام الإقليمي والإسلامي، إلا أنه لابد للعرب والمسلمين من هذا النظام الذي يجب أن يعاد النظر في تكوينه ومنطلقاته على أسس جديدة تراعي المتغيرات الدولية والعربية كذلك، لأن في ظل غياب هذا النظام سيبقى العرب والمسلمون إحدى الحلقات الضعيفة في النظام العالمي الجديد وسيؤدي ذلك إلى مزيد من التشرذم والتفتت والضياع ومزيد من الخسائر لمكاسب حقيقية يملكها العرب والمسلمون.
3- أدى نشوء النظام الدولي الجديد إلى تنامي دول الجوار، خاصة المرتبطة بالدول الكبرى كاثيوبيا وإسرائيل والهند، وزيادة التنافس بين هذه الدول من أجل ملء الفراغ الذي خلفه ضعف النظام العربي والإسلامي، ولذا وجدنا دولاً كالهند وإسرائيل تحاول القيام بأدوار رئيسية مؤثرة في تحديد اتجاهات النظام الدولي نحو المنطقة العربية الإسلامية.
4- لقد كانت حرب أكتوبر نقطة تحول في موقف الغرب من العرب، إذ استخدم النفط لأول مرة كسلاح استراتيجي مؤثر، ولذا فإن أي باحث أو مخطط للنظام الدولي لا يمكن أن يتجاهل النفط، خاصة إذا علمنا أن الولايات المتحدة والمجموعة الأوروبية واليابان - مراكز القوة في النظام الدولي - تعتمد بشكل كبير على النفط العربي والإسلامي، إذ تستورد اليابان 70% تقريباً من احتياجاتها النفطية من منطقة الخليج، بينما تحصل الولايات المتحدة الأمريكية على 28% وفرنسا 35% وإيطاليا 32% من النفط العربي، كما أن 65% من المخزون العالمي للنفط بيد العرب مقابل 6ر2% فقط في الولايات المتحدة الأمريكية، ولذا فإن هذه الدول لا تريد الوصول للنفط العربي فقط بل الحصول عليه بأسعار رخيصة، فإن هذه الورقة الرابحة يمكن أن تجعل للعرب والمسلمين موقعاً مؤثراً داخل النظام الدولي الجديد إذا أحسن استغلالها سياسياً.
بقي أن نسأل السؤال للمرة الأخيرة: هل لنا مكان في النظام الدولي الجديد في ظل غياب لأبسط أسس التعامل مع المتغيرات من حولنا، فنحن إلى الآن لم نحدد موقعنا من هذا النظام قبولاً أو رفضاً، وما يزال منظّرونا يتجاذبهم طرفا الأمر بين القبول المطلق لهذا النظام أو الرفض المطلق له دون أن يوجهوا اهتمامهم للبحث عن بديل آخر.
هل يمكن أن يكون لنا نظام في ظل التخلف والتبعية التي تحياها الأمة؟
وفي ظل الشتات والتمزق الذي وصل إلى كل جانب في حياتنا، هل يمكن أن يتحقق لنا مكان في هذا النظام ونحن نُحيي فينا أعراف الجاهلية القديمة «بداحس والغبراء» في القرن العشرين؟
هل يمكن أن يتحقق لنا ذلك في ظل غيبة دور الإنسان وتهميش لحقوقه وواجباته وحريته وكرامته؟
هل يمكن أن يتحقق لنا ذلك في ظل تبعية فكرية تقذف بنا إلى الشرق تارة وإلى الغرب تارات؟
هل يمكن أن يتحقق لنا ذلك في ظل تغييب للإسلام عن واقع حياتنا وفي كثير من شؤوننا؟
إن النظام الدولي قديما كان أم جديد لن يحقق لنا شيئا من ذلك إذا لم نكن نحن قادرين على تحقيقه.
وصدق اللّه العظيم إذ يقول (إنّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فهل نحن فاعلون؟
([1]). د. توفيق حصر وآخرون، قضايا ومشكلات دولية معاصرة، ص 5.
([2]). Morton Kaplan, System and Process in Iinternational Relation, NewYorkm John Wiles, Sons Inc, 1912.p.115.
([3]). عبد المنعم سعيد، العرب ومستقبل النظام الدولي، ص 16.
([4]). منبر الحوار - العدد 31، 1994م.
([5]). د. حسن العلكيم، العرب وأمريكا والنظام الدولي الجديد، المجلة العربية للدراسات الدولية، العدد 3، 1993م.
([6]). المصدر السابق.
([7]). تعوم تشومسكي، إ عاقة الديمقراطية، ص 25.
([8]). محمد زكريا اسماعيل، المستقبل العربي، العدد 143، يناير 1995م.
([9]). james Schcesinge, "New Instabilities New Priorities" Foreing Policy,N85 Winter.1991/1992.
([10]). جريدة الأهرام، القاهرة، عدد 1 مارس 1992م.
([11]). ريتشارد نيكسون، انتهزوا الفرصة، ص 8 - 28.
([12]). محمد سعيد أبو عامود، منبر الحوار، العدد 31.
([13]). د. حسن العليكم، مصدر سابق، ص 9.
([14]). نعوم تشومسكي، مصدر سابق، ص 227.
([15]). ابراهيم أبراش، مصدر سابق، ص 16.
([16]). ابراهيم أبراش، مصدر سابق، ص 16.